الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن و سلم تسليما كثيرا ، أما بعد ...
يوجدُ نفرٌ من الناس قد بلغوا من الكبر عتياً وهم لمَّا يزالوا صغاراً في عقولهم، وحماقاتهم، ورعوناتهم، ونظرتهم للأشياء. فلا يريدون إلا المداراة المستمرة، ولا يقبلون أيَّ مخالفة لرأي من آرائهم، أو تصرف من تصرفاتهم.
وتجد مَنْ حولهم مِنَ الأولاد، أو الإخوان، أو الأقارب، أو الزملاء يعاملونهم بذلك المقتضى. فهؤلاء قوم قد كَبِروا وما شَعُروا بذلك، بل لا تزال الطفولة باقية في نفوسهم من جهة التصرف، لا من جهة البراءة، والعفوية.
وهذا ضرب مذموم، يصعُبُ التعاملُ معه، ولا يرجى أن يَصْدُرَ منه خير كثير، أو عمل جليل. بل ربما يكون قصارى ذلك أن يكون كفافاً لا له، ولا عليه.
وفي مقابل ذلك تجد من الناس مَنْ هو كبير في سِنِّه، أو عقله، أو علمه، أو جاهه، أو منصبه، ومع ذلك لا يَشْعُر بأنه كبير؛ من جهة تواضعه، وقيامه بأعمال عظيمة ينطلق بها على سجيته، فيراه مَنْ يعرفه وهو يقوم بتلك الأعمال، ويستغرب أشد الغرابة؛ إذ كيف يقوم بما يقوم به دون أدنى تكلف، ودون أن ينتظر جزاءًا أو شكوراً، في الوقت الذي يستنكف من هو أقلُّ منه بمراحل أن يقوم ببعض ما قام به ذلك الكبير.
مُتَبَذَّل في الحيِّ وهو مُبجَّلٌ متواضعٌ في القوم وهو مُعَظَّم
ومن كان ذا نفس ترى الأرض جولةً فلا بد يوماً للسموات يرتقي
ولا ريب أن تلك السجيةَ هي سجية الأكابر والعظماء الذين تكمن عظمتهم في بساطتهم. وأنت تلحظ هذا المعنى عندما تزور فاضلاً كريماً عظيماً؛ فإنك ترى من بشاشته، وخدمته، وتبسطه، وحسن استقباله ما يملأ قلبك بهجة وإجلالاً.
وفي المقابل فإنك قد تزور إنساناً أقلَّ شأناً من الأول بمراحل، فترى مِنْ صِغَرِ نفسه، وانفلات لسانه ما تتمنى معه أن لم تقم بتلك الزيارة إن لم تكن واجبة عليك.
وإذا قرأت التاريخ وجدت أن نفس نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأنفس وأبرها وأكرمها. ومع ذلك لا تراه إلا هيناً ليناً، متواضعاً خالياً من جميع وسائل الخلابة والاسترهاب، فلم يكن جَلالُ قدرِه في النفوس، ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى وسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني.
بل إن تأثيره الذاتي كافٍ في نفوذ آثاره في نفوس أتباعه. ومع ذلك فقد حصل له أعظم جلال في نفوس أعدائه بَلْهَ أوليائه.
روى أبو داود، والترمذي أن قَيْلَةَ بنت مَخْرمة جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وهو قاعدٌ القرفصاءَ قالت: « فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتخشع في الجلسة أَرْعَدْتُ مِنْ الفَرَقِ ».
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً، وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك، وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل
ثم يقول في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم:
لذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه وقيل: إنك منسوب ومسؤول من خادر من ليوث الأسد مسكنه من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ(1)
وجاء في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو في سياق الموت أنه قال: « وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينَيَّ منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأُ عينَيَّ منه ».
1. عثَّر: مكان مشهور بكثرة السباع، والغيل: الشجر الكثير الملتف. انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/114_115.